بلال اللقيس
الإثنين 6 كانون الثاني 2025
خيضت حرب عالمية على حزب الله وحلفائه (حركة أمل وآخرين) بهدف اجتثاثهم وبناء لبنان آخر ثم النفاذ منه إلى الشرق الأوسط الجديد. لم يجرؤ، حتّى الأعداء الجدّيون، على الادّعاء بأنّهم ربحوا الحرب وأنّ الحزب خسرها، رغم حدّتها وما سخّره الغرب فيها من إمكانات لتحقيق هدف امتداده: «إسرائيل».
قد يحاول أحدهم التقليل من الإنجاز الكبير والاستثنائي، ويسعى لبثّ نفَس التشكيك مستغلاً تمهّل وتحوّط حزب الله في خطواته نحو استعادة حيويته التّامة وتفعيل كل مظاهر حضوره. فالأخير لا يسعى لتشغيل كل محرّكاته الآن ويعتمد التدرّج والأناة. يشتبه من يفترض التقليل والتقنين الذي يعتمده حزب الله تراجعاً أو إرباكاً، فهو هو. بل جمهوره ازداد ثقة بذاته وأهدافه، ومجتمعه صار أكثر تجذّراً في انتمائه المقاوم وفي ركوب التحدّيات والبذل للإنسان والأوطان. فالذي ينجح في اختبار بحجم هذه الحرب الكونية، يستعدّ لما هو أرقى وأسمى كما تنبئ سنن الحياة الحاكمة على التاريخ.
إنّ جمهوره تبنّى نصرة غزّة كحرب اختيار (أخلاقية) علاوة على كونها حرب ضرورة (جيوبوليتيكية). بيئته قادت مجاهديه إلى النصر في لحظة غياب القيادة مثلما ثبّت مجاهدوه مجتمعهم. أدار المجتمعُ نفسَه بنفسه في الأيام الأصعب. لم تُضعف المعركة حزب الله وحلفاءه لجهة شرعية خطابهم ومقبوليته العابرة بل تقدّموا في جذب العقول والقلوب. خاضت إسرائيل حربها بأفضل ظروف يمكن أن تتوافر لطرف مقابل المقاومة التي دخلت الحرب في أسوأ سياق عسكري وظرف. ورغم ذلك، حقّقت كل هذا الثبات والقدرة التي انتهت بطلب إسرائيل وقف الحرب.
البعض يقارب الأمور بسطحية، فيظنّ أنّ دور حزب الله والمقاومة قد تراجع. ربّما لا يميّز بين ضرورات ما بعد الحرب من ترتيبات وترميم طبيعي بعد جولة تاريخية ونواتج الحرب وآثارها الكبيرة والبعيدة. يفوته أنّ المقاومة نجحت في صدّ أكبر هجوم في التاريخ الحديث يخوضه الغرب بأداة إسرائيلية على مقاومة لبنان ومنه إلى المنطقة. آخر يخلط بين سقوط النظام في سوريا وتراجع نفوذ حزب الله (علماً أنّ حزب الله في السنوات الأخيرة اقتصر حضوره على بضع عشرات).
لا ينكر حزب الله أنّ سوريا كانت إحدى ركائز جبهة المقاومة، مع التنويه بأنّ دورها في السنوات الأخيرة كان سياسياً وتمثيلياً في المنتديات أكثر منه فعلاً عسكرياً وأمنياً. الحدث السوري له تداعياته، صحيح، لكن لا تزال المخاطر والفرص من سوريا الجديدة متساوية بالنسبة إليه، ناهيك عن أنّ الحضور والنفوذ لا يتّصلان بما تصل إليه القدم بالجغرافيا إنّما بمقدار التهيّؤ. فليس كل خطر أو تحوّل يطرأ يكون بالضرورة تهديداً ويدرج في أولويات التهديد. المهم التهيّؤ والطاقة الكامنة التي هي اليوم أفضل من أي وقت مضى لجهة القناعة بالمبادئ والأهداف والتماهي الجمعي معها.
حزب الله الآن في أولويات طبيعية، يقيّم ويستخلص العبر، يقيّم علاقاته العامّة ويسهر لخدمة أهله الشرفاء الذين كسروا نصال العدو بأجسادهم الشريفة ونفوسهم الأبية وببصيرتهم النافذة وبيوتهم المدمّرة وقلوبهم المعمّرة. البعض يخلط بين معركة تاريخية يخرج منها حزب الله منتصراً (ولو بنصر مرّ، كما عبّر رئيس كتلة الوفاء) ووضعية حزب الله العامة في مسار الصراع العام وتحوّلات المنطقة، والجزئيات. يغفل، أو يتغافل، عن أنّ مصدر قوّة حزب الله هو مجتمعه بعد فكرته الحقّة المقاومة. يغيب عنه أنّ المقاومة لم تعد اليوم ملكاً لبيئتها بل ملكاً للأمّة ولكل حرّ، ملكاً لكل من يريد أن يدفع ضيماً ويصدّ عدواً ويحفظ سيادة وكرامة وطنية ومواطنة فعلية، وشمسها السّيد الشهيد نصرالله مثّل في حياته أملاً وتطلعاً إنسانياً وليس قائداً استثنائياً فحسب. مثّل خياراً في الحياة وتفسيراً لها قبل أي شيء. ورسّخت شهادته هذا النموذج للحياة. ولا شّك أنّ يوم تشييعه، ثم مرقده الشريف، سيحملان رسالة كبرى على طبيعة ووضعية حزب الله السياسية ونظرة المجتمع (ات) إليه.
يعيش البعض الانتظار علّ الأميركي يكرّر سياسته لما بعد حرب 2006 بمحاصرة المقاومة بعد أن أعياه الميدان من خلال هزّ الاستقرار الأمني والاجتماعي والاقتصادي. والأخطر هو محاولة الوقيعة بين الجيش والمقاومة، وأفشله في ذلك حكمة ووعي أهمّ ركيزتين لكينونة لبنان الحاضر.
يرجو البعض أن يكرّر سيناريو شبيهاً أو محدّثاً ويُدغم في خطابه التغيّر في سوريا باعتبار أنّ هذا التغيّر سيُضعف مكانة قوى مواجهة إسرائيل في المنطقة ويُضعف حزب الله. لكنّ الفرحة لن تدوم طويلاً. الحقيقة أنّ الجولاني ونموذجه غير مطمئنيْن لهم مهما تظاهروا بغير ذلك ورغم مظاهر التهليل لهما. ويعلم هذا البعض أنّ سوريا، شعباً وتاريخاً، أكبر من أن يخطفها نظام سابق أو موجة آتية يواكبها الإعلام العالمي ويقدّمها أنّها المشهد الوحيد أمام العالم. المطبخ الذي رتّب له ربطة العنق «الخضراء» تراه عزّز المخاوف عندهم، وكذلك رسائله المتفاوتة المضمون لكل قناة تلتقيه (من المفيد مراجعة سلسلة لقاءاته مع الوكالات الإعلامية الرئيسية ومنطقه في كل منها). يترقّب حزب الله منطقة تتحوّل بأسرع ممّا نتصوّر. زلزال 7 تشرين لم يتوقف بعد. تداعياته تتوالى من سوريا إلى اليمن والعراق إلى حكومات عربية باتت في وجه الحائط. هو الآن يقف مراقباً ومنتظراً موقف القوى والحركات، كـ«الإخوان المسلمين» والقوى الجهادية والعروبية، من أميركا والعدو الصهيوني ومن التعايش وقبول الآخر والتنوّع. يراقب إذا ما كانت هذه «الثورات» ستقتصر على سوريا دون غيرها، فالثورة التي لا تهبّ ريحها تكون أقرب لانقلاب منها لثورة وتحرير.
يرى حزب الله أنّ «طوفان الأقصى» فتح فرصة كبيرة جداً أمام الأمّة واخترق جدار القسمة والتنابذ، ويرى أنّ ظاهرة التساند التي حدثت، رغم تقليل البعض منها والتبخيس بها، تجربة تحتمل التطوير والتعميق. فهذه المسألة كانت الهاجس الأكبر لأمينه العام الشهيد بخط مواز. ويرى أنّ مراجعات بدأت تشقّ طريقها في البيئات الإسلامية، ولا سيّما الجماعات الجهادية، وموقفها من العدو الصهيوني والغرب، ويرى أنّ في ما بعد هذه الحرب نوافذ فعلية في الساحة اللبنانية والعربية يمكن التقدّم فيها.
هو يرى أنّ جبهة المقاومة تواجه أسئلة أقلّ من تلك التي يواجهها الكيان الصهيوني وأنظمة الغربيين وحلفائهم من أنظمة عربية. مسار حروب نتنياهو المتنقلة بين الساحات ومشواره نحو هدفه ما زال طويلاً جداً وليست لديه إجابة عن يوم ثانٍ ولن يكون. يبقى، بعد طول استنزاف، أمامه أمر واحد: أن يجازف في مواجهة إيران. لكنّها خطوة أكبر منه وقد لا تسايره الإدارة الأميركية فيها لمخاطرها، حينها يكون كمن جرَح في كل اتجاه وساحة ولم يُمِت! فلم يصل إلى هدفه في أي منها، فيبدأ النكوص أو تسارع أميركا لحلول على حساب أعرابها. لن يكون أكثر ممّن اشترى وقتاً محدوداً لكن على حساب ردع وأمن وصورة و«ديمقراطية» ووحدة اجتماع واستقرار مستدام وثقة بالمستقبل وتضخّم واستنزاف بشري، أي ابتاع القليل بالكثير والكم بالكيف.
أمّا حلفاء أميركا من العرب، فهم المضطرون أن يجيبوا عن السؤال الأخطر عن المستقبل والكيانات وقدرة الاستمرار وإذا ما كان قد استبدلهم الغرب بتركيا (الحليف الفعال). الذين تنكّروا له ولتضحياته بالأمس في مواجهة الصهيونية وإرهاب «داعش» و«النصرة» وجحدوا، لا بأس أن يحمل كل منهم حمله ويواجه ثقله.
حزب الله الذي عرفناه سيبقى هو هو: مرناً إلا في الثوابت الوطنية والأخلاقية، متواضعاً إلّا في مسألة العزّة والكرامة الوطنية والسيادة، داعية حوار إلا في مسألة العمالة للعدو الإسرائيلي (سيكون أكثر تشدّداً وحسماً)، أشدّ حرصاً على السلم الأهلي ووحدة لبنان وتنوّعه، مصرّاً على الحرّية وطارحاً نظرية العدالة بقوّة وزخم، آخذاً بأصالة المقاومة في البناء الاجتماعي كأصل لحفظ التنوّع والتحرير والتحرّر في منطقة وعالم تغزوهما الشعبويات والتطرف، مؤكداً على تعاون وثيق ونبيل مع الجيش قيادة وأفراداً ومؤسسة كضمانة استقرار وأمان. لن يتغيّر شيء في أهدافه ولا مبادئه ولا قيم مسيرته. قد يطور أكثر في خطابه وفي آليات عمله وحيوياته وطرائقه، ولا سيما مع قيادته الجديدة وأمينه العام سماحة الشيخ نعيم قاسم، الذي نهض بما تنوء به الجبال في أشهر قليلة. سيظهر أكثر افتخاراً بمواقفه وما أنجزه وأكثر انفتاحاً على المدى التحرّري شرقاً وغرباً.
إنّ بذرة النقد والتشكيك بالأنظمة الغربية تنمو وتزدهر، فبعض أجيال الغرب يمكن التأميل في ضميرهم الحيّ وإنسانيتهم أكثر من شرائح استزلام ومحاباة أنظمة التطبيع. الأفق غير مقفل كما يظنّ البعض، والمنطقة في زلزال مستمرّ، والصورة النهائية لها لا تزال قيد التشكّل، والمخاض الإقليمي الدولي يتدحرج ومفتوح على كل احتمال، وتحديد الرابح النهائي الآن أمر غير علمي ولا صحيح. سيكسب من يكون متصالحاً مع نفسه وأرضه وقيمه وأهدافه ومجتمعه؛ هذا ما رأيناه من أهل المقاومة عند بيوتهم المدمّرة وأمام الدبابات منذ الدقائق الأولى لوقف إطلاق النار ولم نجده حتّى الآن في المقلب الآخر.
لننتظر ونتوحّد ونصبر مع مقاومتنا، ليس لأنّها فكرة عقلائية فحسب، بل لأنّها فكرة حق ونور انبلج في ظلام ليل أميركي قد عسعس، فلنستقم على سيرتنا، وإنّ مع الصبر نصراً.
باحث لبناني